من الميلاد إلى الموت و الإنسان في صراع .. مادته و ترابه يشدانه إلى تحت ، و روحه تشده إلى فوق صراع بين عدم و وجود و العدم ليس مجرد خواء .. أو لا شيء .. و إنما العدم قوة سالبة بمثل ما أن الوجود قوة موجبة المرض و الشيخوخه و الذبول و الهزل قوى عدمية سالبة غلبت على الجسم ، فجعلته مريضاً ذابلاً هزيلاً فإذا غلبت هذه القوى العدميه على النفس .. جعلت المزاج النفسي متشائماً يائساً قلقاً سوداوياً كئيباً .. فإذا غلبت على القلب نزلت به إلى درك الحقد و الأنانية و الكبر و الغرور و النفاق و الشهوة فإذا غلبت على العقل أظلمته بغواشي الجهالة و الغباء و البلادة فإذا أغشت البصيرة ألقت بها في مهاوي الكفر و الشرك و الظلم و للعدم جيوش و فرسان .. و له جنود مجندة السوس الذي ينخر .. و البكتيريا التي تحلل و تهدم .. الفيروسات التي تنشر الفوضى و التلف .. مروجوا المخدرات ، ناشرو الفتن ، و تجار الشهوات .. التتار ، الهكسوس ، و الوندال ، الذين هدموا الحضارات .
كل هؤلاء جنود العدم وفرسانه ! و من وراء الغيب .. إبليس و ذريته ، أكبر قوة سالبه عدمية .. شعاره و رايته التي يلوح بها .. أنا .. أنا .. أنا خير منه و هو يجري فينا مجرى الدم ، بمقدار ما يقول الواحد فينا .. أنا .. أنا .. أنا خير منه و لكن الله لم يتركنا نهباً للقوى العدمية السالبة و إنما أعطانا أعلى شحنة موجبة حينما نفخ فينا من روحه و الله هو الفاعل الإيجابى الخالص .. نفخته روح ، و كلمته روح ، و حينما تلابس روحة المادة ، تخلع عليها الصور و النظام و الحياة و الحركه و الشباب و الصحة و العقل و الوعي و الفهم ، و السجايا والفضائل و الحياة بالروح ، هي الحياة الحقّة بلا مرض و بلا موت ، و بلا شيخوخة و غلبة الروح على النفس ، تنزع بها الكمال والنقاء والطهر و غلبة الروح على العقل تنزع به إلى الإدراك ، و العلم و المعرفة و غلبة الروح على الجسد تداوي أسقامه .. و تشفي أمراضه .
و لعالم الروح جنوده المجنده من الملائكة مثلما لعالم الظلمة شياطينه .. و قد أطلق الله القوى السالبة العدمية ، تنازع القوى الموجبة الوجودية بمشيئته و خطته .. و انفرد بالهيمنه لا ينازعه أحد في ملكه و خلق النفس الإنسانية قابلة للانفعال بالقوتين السالبة .. و الموجبة قابلة للانحدار الإبليسى أو التحليق الملائكى .. و جعلها مجال صِراع و حلبة قتال ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) أي في مكابدة و من خلال هذا القتال ينكشف محتوى النفس و يتجلى سرها و تتقرر منزلتها و يظهر مرادها .. وي تأكد إنتماؤها و هذه هي الدنيا و حكمتها ( الذى خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) الدنيا هي المناسبة .. هي المناسبة للتعرف هي سائل التحميض الذي يظهر الظل و النور في الصور الفوتوغرافية .
و هذا تفعل بنا الدنيا ، تظهرنا على حقائقنا و تظهر ما فينا من ظلمة ونور ، فنرى بعضنا البعض في عيون بعضنا البعض ، و نتعرف على أنفسنا من خلال أفعالنا ويفضي كل واحد منا بما يكتم في قلبه في لحظة أو أخرى .
و هكذا تتفاضل النفوس و تتقرر مراتبها و درجاتِها .
هي مناسبة للتعرف ، خلقها الله ليعطينا من فضله و من عدله ، يحسب إستحقاقات يعلمها منذ الأزل ، و لا نعلمها نحن و الدنيا هي حادثة إعلامنا و تعريفنا بأنفسنا .. وإعلام و تعريف كافة شهود الحدث من إنس و جن و ملائكة و شياطين فلا تصح القضايا إلا اذا تم إعلام جميع الأطراف و علم الله لا يقوم حجة على خلقة إذا كان هؤلاء الخلق جاهلين فكان لابد من إعلام شامل كامل و الدنيا هي الإعلام الشامل الكامل و هي ملف الأحوال و الأعمال و النوايا و الخفايا لكل نفس ثم بعد ذلك يآتي النشر و الحشر و الجمع و الفصل و قد رتب الله كل هذا من أجل ان يعطي ويهب و يمنح .. فما خلقنا إلا ليعطينا لم يخلقنا لعذاب و ما أنزل علينا الشرائع وا لتكاليف إلا ليسعدنا ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقىّ ) و في سنتة يعطي كل مخلوق ما يحب الذي يحب الدنيا .. يعطيه من الدنيا ، و الذي يحب الآخرة يعطيه من الآخرة .. و الذي يعشق الظلمة ، يتركه للظلمة .
و من النفوس ما لا تلذ لها إلا حياة الاشتعال و الاحتراق و الشهوات .. تلك النفوس كانت بضعة من النار فإنتهت إلى النار بحكم المشاكلة والمجانسة و لم يصح لها مقام إلا فيها و لم يكن لها حظ من جنة لأنها أصلاً لا تحب الجنة .. إنما يعطى الله كل نفس ما تحب ( و آتاكم من كل ما سألتموه ) ( كلا نُمِد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا ) فقد جعل الله من نفسة وكيلا لنا ينفذ لنا رغباتنا .. ثم تكون كل نفس بعد ذلك ما كسبت رهينة وإذا كان الله يقول : ( و ما خلقت الجن و الإنس إلاّ ليعبدون ) فليس ذلك عن إحتياج منه لعبادتنا ، و إنما لإحتياجنا نحن لعبادته .. و لأن العبادة هي الحبل السرى الذي يربطنا به و الذي عن طريقه يأتي المدد و العطاء مثلما يآتي الغذاء للجنين من الأم عن طريق الحبل السري ، فإذا انقطع هذا الحبل انقطع عن الجنين غذاؤه .. و بالمثل اذا قطعت هذا الحبل بينك و بين الله ، فقد حرمت نفسك من شريان المدد و العطاء و لم يحرمك ربك بل أنت الذي حرمت نفسك و قطعت رحمك و إنما الله رحمة خالصة ، و عطاء خالص ، و قرب خالص و إنما الجفوة و البعد والقطيعة منا و ما الدنيا بكل ما فيها الا عطاء عاجل مؤقت يعقبه في الآخرة عطاء آجل دائم فما خلقنا الله إلا ليعطينا في العاجل و في الآجل ألم ينفخ فينا روحة و يخلع علينا أسماءه و يسجد لنا ملائكته و يسخر لنا سماواته و يفتح لنا كنوز أرزاقه و يطعمنا كفاراً و مؤمنين ثم بعد ذلك يعدنا بميراث الخلود ، فماذا بعد ذلك و هل في الامكان عطاء أكثر ؟ لو كان هناك أكثر فإنه هو ايضا الوحيد القادر على اعطائه .. فهو وحده معطي الكثير و الأكثر و الكوثر فهو يقول لعبده : ( إنا أعطيناك الكوثر ) و من أجل ذلك خلقه فما خلق الا ليعطي و ما خلق الا ليرحم ذلكم الله ربكم لا يكافئه ثناء ولا يتناهي الى قدره حمد لا آله إلا هو له الحمد في الأولى و الآخرة .
..
مقال : لماذا خلق الله الدنيا ؟
من كتاب : هل هو عصر الجنون ؟
from إســلامـيــات http://ift.tt/1xJC4R2
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق