فى كثير من الاحيان ندخل في نوبة ضحك على أمور غاية في الغرابة، وقد اكتشف علماء النفس أن هذا الضحك اللا إرادي يكشف عن أهم أنماط السلوك لدينا. الصحفي العلمي ديفيد روبسون يتناول ظاهرة الضحك بمزيد من التفصيل.
كان حديثي مع صوفي سكوت، الأستاذة في علم الأعصاب بجامعة لندن، قد شارف على نهايته عندما استدارت بمقعدها لتريني مقطع فيديو لرجل نصف عار وهو يقفز إلى حوض للسباحة كانت مياهه متجمدة.
بعد دقيقة من الإحماء، قفز الرجل إلى حوض السباحة ليرتطم بذلك الجليد المتماسك على سطحه، مما جعل الأصدقاء من حوله يدخلون في نوبة من الضحك.
قالت سكوت معلقة: "لقد بدأوا يضحكون بمجرد أنهم رأوه لم يصب بأذى، ولا كسور، ولا جروح، وكانوا يقهقهون بطريقة لا حيلة لهم فيها."
لماذا يداهمنا الضحك حتى لو كان شخص ما يتألم؟ ولماذا ينتقل هذا الضحك بطريقة معدية؟ هذه الأسئلة حاولت سكوت الإجابة عنها خلال السنوات الثلاث الماضية، وشرحت أثناء مؤتمر في مدينة "فانكوفر" الكندية الأسبوع الماضي السبب في أن الضحك يعتبر أحد أهم سلوكياتنا التي يساء فهمها.
لكن العمل الذي تقدمه سكوت لا يحظى دائماً بقبول أصدقائها. فقد أشارت إلى ملاحظة مكتوبة بخط اليد وجدتها ذات يوم ملصقة على أوراق قامت بطباعتها، "هذه الكومة من الورق تبدو كأنها قمامة (بسبب طبيعة المادة التي تحتويها) وسوف يتم التخلص منها اذا لم تأخذيها من هنا."
لقد بدأت سكوت حياتها العملية باختبار الصوت، وما يوحي به الصوت من معلومات عن شخصياتنا. وتقول في هذا الصدد: "يمكن للصوت أن يكشف عن جنس صاحبه، وعمره، ووضعه الاجتماعي، والاقتصادي، وعن أصوله الجغرافية، وعن مزاجه، وحالته الصحية، وحتى عن أمور لها علاقة بتفاعله مع محيطه."
إحدى تجاربها تضمنت مسحاً ضوئياً لصوت فنان من محبي تقليد الأصوات، وهو دانكان ويزبي، للوقوف على الطريقة التي يقلد فيها الطرق الخفية لكلام الآخرين. ومن المدهش أنها وجدت أن نشاط الدماغ يعكس مناطق مرتبطة عادة بحركات الجسم والتخيل، عندما حاول أن يتقمص شخصية ما.
وقد ساعدها ذلك الأداء من التقليد على تحديد المناطق المشاركة في أشياء مثل اللهجة، والصياغة، وهي جوانب مهمة من هويتنا الصوتية.
لكن دراسة نشرت في ناميبيا جعلت سكوت تدرك أن الضحك واحد من أهم ظواهرنا الصوتية. أبحاث سبقت ذلك أظهرت أنه يمكننا التعرف على ست عواطف عالمية مشتركة بين مختلف الثقافات، وهي الخوف، والغضب، والدهشة، والحزن، والسعادة، والاشمئزاز، بناء على تعابير الوجه.
أما سكوت فقد أرادت أن تعرف ما إذا كنا نستطيع إخفاء معلومات أكثر يمكن أن تبدو في أصواتنا.
لذا طلبت من أشخاص من سكان ناميبيا الأصليين ومن عدد من الإنجليز الاستماع إلى تسجيلات لكل منهم، وأن يلاحظوا العواطف التي يلمسونها من خلال التسجيلات التي يسمعونها، بما في ذلك تلك العواطف الست المتعارف عليها عالمياً، إضافة إلى الشعور بالنصر، أو الطمأنينة، أو الارتياح.
كان الضحك هو أكثر العواطف التي أمكن ملاحظتها بسهولة في كلتا المجموعتين. وتقول سكوت: "على الفور أمكن تمييز الضحك عن غيره من المشاعر الإيجابية."
وكلما تعمقت سكوت في البحث، ازداد إعجابها ودهشتها من التفاصيل التي ينطوي عليها الضحك. على سبيل المثال، توصلت الى أن الغالبية الكبرى من الضحكات لا علاقة لها بالفكاهة.
وتضيف: "يعتقد الناس جازمين أنهم غالباً ما يضحكون على النكات التي يطلقها الآخرون، لكن أثناء الخوض في محادثة ما، يكون الشخص الذي يضحك أكثر من غيره في العادة هو الشخص المتحدث."
وتنظر سكوت إلى الضحك باعتباره عاطفة اجتماعية تقربنا من بعضنا البعض، بغض النظر عما إذا كان هناك شيء مضحك فعلاً.
وتمضي سكوت قائلة: "عندما تضحك مع الناس، فأنت تظهر لهم أنك تحبهم، وأنك تتفق معهم، وأنك منسجم معهم. الضحك هو دليل على قوة الصداقة."
الضحك المعدي
وربما يفسر ذلك السبب الذي يجعل زوجين يدخلون في نوبة ضحك معا على ما يتبادلونه من فكاهة واضحة، دون أن تسري عدوى ذلك الضحك إلى من يشاهدهم.
وتقول سكوت: "سوف تسمع أحدهما يقول (عن الآخر): لديه روح دعابة ممتازة، وأنا فعلاً أحبه بسبب ذلك." وتضيف أن ذلك يعني كأنك تقول: "أنا أحبه، وأنا أظهر له أنني أحبه عن طريق مشاركته الضحك عندما أكون بقربه."
في الواقع، يمكن لروح الدعابة أن تكون سبباً رئيساً في الحفاظ على العلاقات مع الآخرين، وتشير سكوت إلى دراسة أخرى، على سبيل المثال، تظهر أن الأزواج الذين يضحكون مع بعضهم البعض يجدون في الضحك وسيلة للتخلص من التوتر بعد حدث مرهق، وبشكل عام، غالباً ما يبقون مع بعضهم لفترة أطول.
دراسات أخرى حديثة تظهر أن الناس الذين يضحكون مع بعضهم البعض على مقاطع فيديو مضحكة غالباً ما يبوحون بمعلومات شخصية عن أنفسهم، مما يمهد الطريق للتعارف وإقامة العلاقات.
حتى الضحك على الرجل الألماني الذي يسقط فوق بركة السباحة المتجمدة كان عاملاً لتجميع الأصدقاء. وتقول سكوت: "من المثير للانتباه كيف بدأ أصدقاؤه يضحكون بسرعة، أعتقد أن هدفهم كان التخفيف عنه."
وفي هذا السياق وجد روبين دانبار من جامعة أكسفورد أن الضحك يرتبط بالشعور ببداية الألم، ربما عن طريق زيادة هرمونات الأندورفين، وهي مركبات كيماوية مرتبطة بالدماغ والجهاز العصبي من شأنها أيضاً زيادة الترابط الاجتماعي.
وتحاول سكوت أن تجد الفرق بين الضحكات العابرة التي نستخدمها لإضافة التشويق إلى محادثاتنا مع الآخرين، وبين الضحك اللاإرادي الذي من شأنه أن يفسد برنامجاً إذاعياً أو تلفزيونياً.
على سبيل المثال، اكتشفت سكوت أن نغمة الصوت في الضحكة المتكلفة تكون غالباً أنفية، بينما لا تخرج الضحكات اللاارادية من الأنف.
ويظهر المسح الضوئي الذي أجرته سكوت الطريقة التي تفاعل بها الدماغ مع كل نوع من أنواع الضحك. كلاهما يبدو أنه أثر في مناطق الانعكاس في الدماغ، وهي المناطق التي تقلد سلوك الآخرين.
هذه المناطق تنشط سواء رأيتك تركل كرة أو إذا ركلتها أنا بنفسي على سبيل المثال. ومن المحتمل أن يكون ذلك التقليد العصبي الدماغي هو ما يجعل الضحك معدياً.
تقول سكوت: "هناك احتمال كبير أن تضحك عندما تكون مع شخص آخر، وتصل نسبته إلى ثلاثين مرة أكثر من أن تكون وحدك". ويوجد فرق مهم رغم ذلك، وهو كلما كانت الضحكات الاجتماعية أقل عفوية، فإنها تحفز نشاطاً أكبر في المناطق المرتبطة بالإدراك العقلي، وتفسر دوافع الآخرين، ربما لأننا نرغب في معرفة سبب تصنعهم للضحك.
ربما ظننت أنه من السهل إيجاد الفرق بين الضحك التلقائي والمصطنع، لكن سكوت تعتقد أن هذه المهارة تتطور بالتدريج في غمرة الحياة، ويمكن أن تنضج بالوصول إلى سن الثلاثين.
لهذا السبب، أجرت سكوت في الآونة الأخيرة تجربة في متحف لندن للعلوم، حيث طرح فريقها أسئلة على زوار المتحف من مختلف الأعمار من خلال مشاهدتهم لمقاطع فيديو يظهر فيها أشخاص يضحكون ويبكون، وطلب منهم الحكم على أيها تلقائي وأيها مصطنع.
وتشير في هذا الصدد إلى أن البكاء هو طريقة الرضيع الأولى للتواصل مع الآخرين، بينما يكتسب الضحك أهمية أكبر كلما كبرنا في السن.
ورغم أننا لا نحب الضحكات المصطنعة لبعض الأشخاص، تعتقد سكوت أن سلوكنا هذا يكشف عن جوانب في شخصياتنا وتركيبنا النفسي أكثر من كشفه عن جوانب مزعجة في شخصيات هؤلاء المتصنعين.
حدثتني سكوت عن زميلة لها اعتادت على أن تزعجها بشكل متكرر بضحكة عالية وطويلة. "اعتقدت دائماً أنها تضحك بطريقة غير لائقة، لكنني عندما دققت في الأمر أكثر، وجدت أن الغرابة في الأمر تكمن في عدم تفاعلي مع ضحكاتها."
لقد كانت ضحكاتها عادية جداً، وكان السبب هو أن سكوت لم تشعر بالارتياح تجاه تلك الزميلة، فأعرضت عنها. ولو كانت تشعر بالارتياح تجاهها لجاملتها بالضحك معها دون أن تلاحظ أن ضحكتها مزعجة أو متصنعة.
حب الاستطلاع دفع سكوت إلى التفكير في سلوك الناس داخل نوادي الكوميديا، أو المسارح الضاحكة التي يقف فيها الكوميدي على المسرح ويلقي النكات بينما يتابعه الجمهور ويضحك.
تقول سكوت: "الأمر المشوق حول الضحك في حالة وقوف الممثل الذي يلقي النكات على المسرح، هو أنه تفاعلي. فالجمهور يتحدث مع الكوميديان. لقد استرعى انتباهي ما يحدث عندما يبدأ الجمهور في الضحك، ثم كيف تتلاشى الضحكات، سواء كنت متفاعلاً مع الناس حولك أو كنت غير مبال، لأن التجربة هي فقط بينك وبين الشخص الواقف على المنصة."
ومن المفارقات، كما تقول سكوت، أن الكوميديان عادة ما يجد أنه من السهل عليه العمل في أماكن فسيحة وكبيرة، ربما لأن طبيعة الضحك المعدية تعني أن موجات المرح تنتشر بسهولة أكبر عندما يكون عدد الناس كبيراً.
وتذكر سكوت مقطع فيديو للكوميديان شون لوك وهو يتسبب في ضحك الجمهور بطريقة هستيرية بترديد كلمة معينة بين الحين والآخر، والسبب هو انتشار عدوى الضحك بين الجمهور.
حالياً تعكف سكوت على تزويد الجمهور الذي يشاهد الممثلين الكوميديين بأجهزة استشعار أو مجسات لتتبع انفجار الضحك، دون أن تصادف نجاحاً. لكنها تأمل في أن تواصل العمل مع كوميديين مشهورين من أمثال روب ديلاني الذي ربما يتمكن من التغلب على الإحراج من وجود أجهزة استشعار تسجل لحظات البداية في الضحك عند الجمهور.
من حين لآخر، تأخذ سكوت معها الميكروفون عندما تذهب إلى سهرات كوميدية في لندن، وقد سألتها إذا ما كانت ملاحظاتها قد أشبعت رغبتها في معرفة أسرار الضحك. لا ترى سكوت أن العلم ساعدها على أن تصبح عبقرية في إطلاق النكات أو التسبب في الضحك، مع أنني اكتشفت أنها كانت مضحكة جداً في حفلة خيرية مساء اليوم التالي.
وكما يذكرنا قميصها الذي يحمل عبارة "هل هذا من (حقائق) العلم؟"،يمكن أن يكون زملاؤها المقربون غير راضين عما تقوم به من أبحاث وتجارب، لكن سكوت تصر على أن الضحك أداة قوية في التعبير عن مكنونات أنفسنا وصفاتنا الشخصية، ويدعو الناس إلى الاستماع لنا.
وتختم سكوت بالقول: "قد يبدو الضحك شيئاً عابراً تافهاً بلا هدف، لكن في الواقع، هو ليس سلوكاً محايداً، فهو دائماً يحمل معنى معين."